استقامة الفعل مع القول والثبات على المبدأ أقوى وأسرع سبل التربية الناجحة:
فإذا كان المربى هو المثال الحي المرتقي في درجات الكمال فإنه يثير في نفس المتربي قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير والمحبة، ومن ثم يتطلع إلى محاكاته والإقتداء به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها متمثلة فيه.
وإن كانت مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد المربى(القدوة) إيصالها للمتربي (للمقتدى).
وقال – سبحانه – موبِّخاً من يأمر الناس بالخير ولا يكن عاملاً به في ذات نفسه:” أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون؟ “
ولذلك عنى السلف – رضي الله عنهم – أشد العناية بالإشراف على من يقومون بتربية أبنائهم وطفقوا يؤكدون لهم هذا المعنى، يروى عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال لعبد الصمد مؤدب أبناء الخليفة هارون الرشيد: ” ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه”.
والأعمال دائماً أعلى صوتاً من الأقوال:
لذلك كان تفاعل المربى مع القيم التربوية التي يدعو إليها والتزامه بها، أجدى من كثير من الكلام عن أهميتها والدعوة إليها شفهياً، من غير أن يصاحب ذلك عمل في واقع الأمر،
فالتزام المربى أمام الطفل بالصدق – مثلاً – في كل تصرفاته فيما يعود عليه بالمنفعة أو ما يعود عليه بالضرر، أجدى على الطفل من حديث المربى المتكرر عن أهمية الصدق وقيمته وهو لا يلتزم به عملياً في أقواله.
إذن.. فليكن سلوك المربى هو أكبر وأقوى دليل على صدق ما يدعو إليه، فعندما أخبرنا الله – عز وجل – أنه جعل لنا في رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – قدوة وأسوة حسنة ليكون نموذجاً عملياً نقتدي به في سائر حياتنا،
نموذج عملي رائع:
يقول – رحمه الله -: “لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم. وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه. ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ.
ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى واتصل بكاؤه. فكان- وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبنى قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن. وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أنّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلوب، بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فقلّ الانتفاع بهم في حياتهم، ونُسُوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد يلتفت إلى مصنفاتهم.
فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر. “
أعزائي المربين والمربيات…
لم تترك لي كلمات ابن الجوزي ما أقوله في هذا المقام سوى أن أكرر معه الحقيقة التربوية: أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.. فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر.
المصدر: موقع لها أون لاين .