الأربعاء 11 ديسمبر 2024 / 10-جمادى الآخرة-1446

القيادة الصالحة .. ضوابط ومسئولية.



موقع المستشار – منى ثابت.

 

الأمة العربية والإسلامية في ظل ثوراتها تعيش الربيع العربي، وتتطلع عبره إلى مستقبل مشرقٍ بالحرية وباسمٍ بالعدالة والمساواة، وقبل هذا كله وفي مقدمته، التحرر من كل سلطان أجنبي، والذي كان في السابق مستعمرًا يحتل الأرض، وفي الحاضر غاصبًا يحتل الفكر والعقل، وخلف من ورائه من بني جلدتنا من يسعى إلى خدمته، ويسوِّق لفكره وبضاعته أكثر مما كان يفعله يوم أن كان يحتل الأرض. والأمة في هذه الحال أحوج ما تكون إلى القادة المهَرة، والمصلحين المخلصين، والزعماء الأقوياء الذين تتوفر فيهم شروط القيادة الصالحة.


الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر يرى أن أبرز شروط القيادة الصالحة في واقعنا المعاصر تتمثل في:

ـ علم بسياسة الأمم، وتحليل للنفوس وطبائع الجماعات، ومعرفة بمتطلبات العصر الجديد .
ـ استيعاب لمظاهر النهوض بحيث تشمل شؤون حياة الأمة .
ـ إخلاص يدعوهم إلى التضحية، وإيمان يدفعهم إلى الثبات .
هؤلاء هم الذين يُخرجون الأمة من حيرتها، وتكون هدايتها وإرشادها على أيديهم.


وفي ظل ما تعايشه أمتنا من مظاهر للنهوض تتجلى في كل مظاهر حياتها؛ من ثورة سياسية، إلى إصلاح اجتماعي، إلى يقظة اقتصادية، إلى رغبة قوية مُلحِّة في الحرية والعدالة والمساواة، يؤكد الشيخ قطب أن الحرية هي المسئولية بعينها، وأن الإسلام قد منح كل إنسان الحرية الكاملة أن يعمل ما يشاء، لكن في إطار ضابطين:

الأول- كما تدين تدان:


وأن ما تفعله بالآخرين سوف يُفعل بك؛ هنا، يتوقف كل فرد عن الاعتداء؛ لأنه يوقن بـ”كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ، وَبِالْكَأْسِ الَّذِي تَسْقِي بِهِ تَشْرَبُ وَزِيَادَةً؛ لِأَنَّ الْبَادِيَ لَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ”. عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “الْبِرُّ لَا يَبْلَى، وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ؛ فَكُنْ كَمَا شِئْتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ”.


وهذا ما عالج به النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه ليأذن له بالزنا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟” قَالَ: لَا. قَالَ: “وَكَذَلِكَ النَّاسُ؛ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ”. قَالَ: “أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟” قَالَ: لَا. قَالَ: “وَكَذَلِكَ النَّاسُ؛ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ”. قَالَ: “أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟” قَالَ: لَا. قَالَ: “وَكَذَلِكَ النَّاسُ؛ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ”، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: “اللهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهْ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ”.
وما أجمل هذا البيت:


وَاعْلَمْ وَأَيْقِنْ أَنَّ مُلَّكَكَ زَائِلٌ … وَاعْلَمْ بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانْ

الضابط الآخر- أنك مجزيٌّ بعملك:


إذا كان بعض الجزاء يُعجَّل في الدنيا، فإن تمام الجزاء يكون يوم الدين، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة) (آل عمران: 185). وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُه اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ”.


وإن تمام الحرية في تمام العبودية لله تعالى؛ هذه الحرية التي تخلِّص المسلم وتحرره حتى من شهواته المباحة حين يكون قضاؤها معصية، كما في الصيام. وحين يكون عبدًا خالصًا لله، فلن يكون عبدًا لغيره.


ولا ننسى أن الأساس الأول في نيل التمتع بالحرية والتحرر من الأجنبي أن يتحرر الاقتصاد، وأن نحقق الاكتفاء الذاتي في كل مقومات حياتنا، فنستغني عن كل معونة تكبل أيدينا، وتقيد قرارنا وما يترتب على ذلك من تغليب لمصالح خاصة بل ومصالح الأعداء وأعوانهم على مصلحة الشعب والأمة.


وفي الختام ـ والكلام للشيخ جمال قطب ـ نثق بوعد الله في كتابه العزيز من أن:

– المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأن هذا من سنن الله التي لا تتخلف. قال الله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).
– مكرهم إنما هو بأنفسهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام: 123).
– عذاب الله سينزل بهم، وأن مكرهم إلى بوار: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر: 10).
– التوكل على الله هو مصدر قوتنا، ومنطلق نهضتنا: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( (الطلاق: 3).

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم