الأثنين 09 ديسمبر 2024 / 08-جمادى الآخرة-1446

المنغّصات .



 http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcRBlu3ilLDqPzEEXPIJPkElHzHno_Oo7j86psW7rpXu6wBrkKXM
 د. نهى قاطرجي .

يسعى المرء في حياته الدنيا إلى الحصول على السعادة و الراحة الذهنية والبدنية والمالية ، لهذا تجده في مسعاه يكره ويحارب كل ما ومن يقف في طريقه ويعتبره حاجزاً أمامه يمنعه من الوصول إلى هدفه، ولهذا فهو دائماً إما يضع اللوم على الآخرين في فشله وإما يتذمر بالقول : لو لم يحدث معي هذا الفعل لكنت في أفضل حال !

إن مثل هذا الإنسان يريد أن تكون الحياة له وحده وأن تكون كل الطرق التي يختارها سالكة وآمنة ، وعندما يصادفه في طريقه ما ومن يكدر عليه راحته وينغص عليه فرحته تجده يضع اللوم عليه فهو الذي كان السبب في أن فرحته لم تكتمل أو هو الذي حال دونه ودون هدفه .

والواقع أن هذه المنغصات – التي يحاول الإنسان الفرار منها – لا يمكن أن تخلو منها الحياة ، لأنها ابتلاء من الله عز وجل كسائر الابتلاءات والمصائب التي يصاب بها المرء في هذه الدنيا ،

والمنغصات نوعان : داخلي وخارجي ، وهذان النوعان ينقسمان بدورهما إلى أنواع متعددة ، فمن المنغصات الداخلية التي تفقد الإنسان سعادته الوساوس والأفكار والهموم والأحزان والآلام والأوجاع التي لا تخلو منها حياة إنسان ،

أما المنغصات الخارجية فهي التي كثيراً ما تختلط مفاهيمها في الأذهان، لأن الإنسان قد يؤمن بأن المرض والألم ابتلاء من الله ليمحص الذنوب ويرفع الدرجات إلا أنه لا يعتقد بأن ما يحدث له من أحداث وما يشاهد من أشخاص يقع في هذا الإطار ، بل كثيراً ما يعتبر هذه المنغصات الخارجية هي السبب في تعكير مزاجه وفي سوء تصرفه .

والأمثلة على ما نقول متعددة ، فكم من شخص خرج من بيته صباحاً مسروراً مستبشراً بالخير فإذا به يفاجأ بإطار سيارته المثقوب ، أو يفاجأ بماءٍ أو نفايات ترمى عليه من أحد البيوت ، مما يجعله يفقد صوابه ويبدأ بالسباب والشتائم يمنة ويسرة ويتعكر مزاجه طوال النهار ، وهو لا يكتفي بتعكير مزاجه بل يعكر مزاج الآخرين أيضاً لأنه لا يرضى أن يكون غيره سعيداً وهو منزعج ، فيا ويل من كان موظفاً عند مثل هذا الشخص ويا ويل الزوجة التي تعكر مزاج زوجها .

ومن الأمثلة على هذه المنغصات الابتلاء بشخص بغيض يتوجب وجوده معه بشكل دائم ، كأن يكون زميلاً في العمل أو زوجاً سيء الطبع أو زائراً ثقيل الظل ، مما يجعل الطرف الآخر في حال من التوتر الشديد تجعله في بعض الأحيان يفتعل المشاكل بينه وبين هذا الشخص ليبعده عنه فترة أطول.

وإذا كان هذا الأمر ممكناً مع الأشخاص الغرباء فإنه يصبح شبه مستحيل داخل البيت ومع الشخص الذي يفترض أن يشاركه في السراء والضراء ، وهذا الأمر للأسف كثير الحصول فكم من مرة يفاجأ العروس الذي بنى الآمال على شريك حياته بأن الأمر ليس كما تصور ، فالكمال لله ، فهذه زوجة كثيرة الشكوى ، وهذا زوج بخيل ، وهذه أمٌّ تهمل واجباتها البيتية لتنصرف إلى حياتها الشخصية ، وهذا ولد فاشل لا يحب العلم ، كل هذه المنغصات تجعل الإنسان ينظر إلى غيره ويقارن حاله بحاله فيعتبر أنه أفضل منه لأنه يملك ما لا يملك ، أو لكونه لم يصب مثل مصابه .

إن عدم إصابة الآخرين بالمصاب نفسه ليس دليلاً على أنهم سعداء دون هموم ومشاكل ، فللبيوت أسرار ، فكم من شخص تراه يضحك مسروراً تظنه خالياً من الهموم والمصاعب ، وعندما تعلم قصته ترثي لحاله وتشكر الله عز وجل على كونه لم يبتليك كما ابتلاه .

وهنا يمكن أن يخطر في الذهن السؤال التالي : ألا يمكن أن تكون الحياة أجمل بدون هذه المنغصات ؟ وكيف يمكن تجنب هذه المنغصات أو كيف السبيل إلى تقبلها والتعايش معها ؟

في البدء نذكر بسنة من سنن الله في خلقه وهي سنة الابتلاء ، فالناس يمتحنون بالحوادث الدهرية كما يمتحنون بعِشرة الناس من حولهم ، لذلك فلا يطمعن إنسان بأنه سيأتي يوم يستريح فيه من كل أعدائه وتصفى نفسه ويشعر بالراحة والسكينة ، لذلك قال ابن حزم : ” من استراح من عدو واحد حدث له أعداء كثيرة ” .

كما أن التكدير في الحال والمال قد يكون في بعض الأحيان ناتجاً عن تقصير الإنسان بواجباته تجاه خالقه عز وجل ، وسعة اغتراره بحِلمه إذ يعتقد وهو في خضم النِّعم أن ما هو فيه باق وقد نسي أن كل حال يزول ، وصدق المثل الذي يقول : ” لو دامت لغيرك ما وصلت إليك ” .

وقد نبه ابن الجوزي إلى أسباب التكدير فقال : ” متى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمةً ما شُكِرَت ، وزلة قد فُعِلَت واحذر من نِفار النِّعَم ومفاجأة النِّقَم ولا تغتر بسعة الِحلم ، فربما عُجِّل انقباضه ” .

لهذا فمما يعين المسلم على تقبل منغصات الحياة اليومية وحسن التعامل معها الإيمان بالله عز وجل والإكثار من ذكره تعالى في كل حال من الأحوال وخاصة عند الصباح حيث أن لاستفتاح النهار بذكر الله أثره في طرد الشيطان ، قال بعض السلف : ” إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملَك والشيطان فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلَّله طرد الملَك الشيطان وتولاه ، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان ” .

كما أن الذكر إذا بقي على اللسان فهو يعين على ضبط الأعصاب عند الجزع وعند وقوع المخاطر ، قال تعالى : ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾.

أما من ناحية التعامل مع الآخرين فإن الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر تعين المرء على تحسين أخلاقه خوفاً من عقاب الله ورجاءً لعفوه وغفرانه ، وليعلم المرء أن الحلم والصبر من أهم الصفات التي تعين على تجاوز محن الحياة ،

كما أن الرفق واللين يحول العدو إلى صديق ، وهذه الصفات أمر بها الله عز وجل بقوله :
﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾ .

وقد قال أحد الحكماء : ليست الحكمة في أن لا تفعل الشر فقط وألا تحمل الآخرين عليه، بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله ” .

فإذا عجز المرء عن إصلاح غيره فليعف وليصفح ، وليعلم بأن العيوب لا يخلو منها بشر ، فليعمل المرء أولاً على إصلاح نفسه والتخلص من عيوبه وقديماً قيل : ” طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها ” .

وليعمل ثانياً على تحصين نفسه من العيوب التي يجدها في غيره ، قيل لعيسى عليه السلام : “من أدبك ، قال ما أدبني أحد ولكني رأيت جهل الجاهل فاجتنبته ” .
وإذا كان يرى في الآخرين عيوباً فإن فيه من العيوب ما يتغاضى عنه غيره، لهذا قال ابن حزم : ” اقنع بمن عندك يقنع بك من عندك ” .
وليتفكر الإنسان لأنه دائماً في حالة ابتلاء وامتحان فكما ” يمتحن المرء بقرب من يكره يمتحن ببعد من يحب ولا فرق ” ، فالإنسان ما خلق على هذه الدنيا كي ينعم بالراحة والهناء ، فهذه ليست صفات الدنيا بل صفات الآخرة .

ومما يحكى في هذا المجال قصة عن رجل ركبته المتاعب فخرج من بلده إلى بلد آخر لعله يجد الراحة والطمأنينة ، فوصل إلى مدينة عامرة ، ، وقبل أن يدخلها مر إلى مقبرة المدينة ، فوجد مكتوباً على القبور عبارات غريبة لفتت نظره ، فهذا الملك عاش خمسة ، وفلان القائد عاش أسبوعاً وآخر أقل ، فتعجب من الأمر ولما سأل عن هذا اللغز قيل له ” إننا أهل هذه المدينة لا نقدر أعمارنا بالسنين التي نعيش بها بل بأيام السعادة والهناء والطمأنينة ، فأعجب الرجل الغريب بأهل هذه المدينة وقرر الإقامة فيها بعد أن وصى أن يكتب على شاهد قبره بعد موته ” هذا قبر فلان بن فلان لم يحقق شيئاً في حياته مات يوم مولده ” .


تصميم وتطوير شركة  فن المسلم