الهزيمة النفسية .
د.فيصل بن سعود الحليبي.
الحمد  لله الخافض الرافع ، الباسط الرازق ، القوي المتين ، أشهد ألا إله إلا  الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أدى الأمانة وبلغ  الرسالة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، صلى الله عليه وعلى آله  وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
 
أما  بعد : فيا معاشر المسلمين ، اتقوا الله فيما تعلنون وتسرون ، فإن الله  يوصيكم بالتقوى فيقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ  حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
 
أيها  الأحبة في الله : في مثل هذه الأزمات العصيبة والمصيرية التي يمر عليها  العالم الإسلامي اليوم يتلذذ أقوام بوصف الأمة بالضعف والمهانة ، ويتفكهون  بزرع هذه الأوصاف في القلوب ، غير متيقظين إلى أن من أسباب هذا الضعف هو بث  الهزيمة في النفوس وتنشئة الأجيال على سلوكياتها والتطبع بأنماطها .
 
إن  هذا الصنف من الناس سلبي الإرادة فهو لا يجيد إلا النقد غير المجدي ، أو  التشاؤم غير المفيد ، وتراه أبعد ما يكون عن ميدان العمل الجاد ، والعطاء  المثمر ، كما أنه يتوهم كثيرًا من العراقيل التي تحول دون نتاجه لأمته  ومجتمعه ، وربما يصل الأمر ببعض هؤلاء أن تتحول قطرات المطر في الصباح  الباكر تجعله يفكر طويلاً في ذهابه إلى عمله،وقد لا يذهب !!
 
لن  أسهب طويلاً في وصف في هذا الصنف ، لأن من العجيب كما يبدو لي أنه صنف يعي  هذه الصفات في قرارة نفسه ، ويعلم وجودها فيه،غير أنه مهزوم بسببها..
 
 
ولنبحث سويًا أيها الأفاضل في بعض أسباب الهزيمة النفسية وعلاجها، علنا نتحسس الداء ، ونجد الدواء .
 
السبب  الأول : ضعف التوكل على الله تعالى ، الذي كرر علينا الأمر بالتوكل عليه  في كتابه فقال : } وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ { ،  وقال سبحانه : } إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ  وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ { ، فإذا ما ملأ المؤمن قلبه  بالتوكل على الله لم يبق للجزع في قلبه موضعًا ، ولا للاضطراب في نفسه  مكانًا ، بل تراه ثابت الجنان ، واثق الخطى ، يعمل للدنيا كأنه سيعيش أبدا ،  ويعمل للآخرة كأنه سيموت غدا .
 
فما خاب حقًا من عليه توكلا  ***  توكل على الرحمن في الأمر كله
تفز بالذي ترجوه منه تفضلا ***  وكن واثقًا بالله واصبر لحكمه
 
السبب  الثاني : الفراغ الروحي ، فإن الروح إذا لم تجعل لها جدولاً عمليًا يخدم  الإنسان فيه كل من تجب عليه خدمته ، انشغلت هذه الروح بأوهام الهزيمة  والضعف ، وأصبحت هشة تشرب كل خبر ، وتصدق كل نبأ ، فكلمة تميل بها يمينًا  وكلمة شمالاً ،
 
 أخي الحبيب : إن الحقوق كثيرة ، فاشغل نفسك بتأدية كل حق لصاحبه ، تجد  نفسك في غاية الأنس والسعادة ، فأهلك في حاجتك ، وبلادك في حاجتك ، وأمتك  في حاجتك ، فتأمل كيف تزيد هذا الحقوق من قوة الأمة إذا هي أديت ، وما  والله ما ضعفت الأمة إلا بعد أن فرطنا في أداء حقوق بعضنا مع بعض ، يقول  النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا  يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ  الْقَرْنَاءِ ) رواه مسلم .
 
عَنْ  عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صلى  الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ  أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً : فَقَالَ  لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ  حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ  طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ مَا أَنَا  بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ  أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ  فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ  الْآنَ ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ  حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا  فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم  عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه  وسلم صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البخاري .
 
السبب  الثالث : عدم اليقين بنصر الله تعالى ، وضعف الإيمان بقدرته ، وإنما أتى  ذلك من الجهل بعظمته ، وقلة تدبر كتابه العزيز ، وسنة نبيه صلى الله عليه  وسلم ، وقصر النظر في كل حادثة تقع ، حتى يظن بعض المنهزمين نفسيًا بأن كل  قضية كبرى تحدث بأنها هي نهاية المسلمين وفيها هلاكهم ، ألم يقرأ من دبت  الهزيمة في أوصاله قول الله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم  } ، وقوله سبحانه : { والعاقبة للمتقين } ،
 
 ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ  أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ  ) رواه البخاري ، فلنوقن بأن النصر لمن نصر الله لا لمن حاربه وحارب  أولياءه ، ولنؤمن بأن العاقبة لأهل التقوى ، لا لأهل الفجور والمنكرات ،  ولنجزم بأن أهل الحق ظاهرون حتى يأتي أمر الله .
 
 
السبب  الرابع : التعلق بالدنيا ، والمبالغة في حب البقاء فيها ، ومحاولة التلذذ  بكل ملذاتها ، وبالمقابل نسيان الآخرة ، وما أعد الله فيها من النعيم  للمتقين ، والجحيم للكفرة والمجرمين ، فذلك التعلق وهذا النسيان لا شك  أنهما يوديان بالمرء في حفر الحرص على هذه الدنيا ، حتى يشعر بأنه لابد أن  يبقى فيها بلا موت ، ويحس بأن كل صيحة عليه وعلى أمواله ، حتى يصل به الحال  أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه ، فيا بؤس من تعلق قلبه  بالدنيا وهي دار الغرور والفناء ، ونسي الآخرة وهي دار البقاء والقرار {  كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ  فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
 
لو لم يكن منها إلا راحة البدن *** هي القناعة فالزمها تعش ملكًا
هل راح منها بغير القطن والكفن*** وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
 
 
السبب  الخامس : قلة العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف لم تهزمه  أعاصير الكفر ، ولم تزده في نفسه إلا ثباتًا ويقينًا ، إلى أن استعذبت  ألسنة العرب والعجم شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فلم تكن  الأحزاب لتقهره ، ولم تكن المغريات لتثنيه ، بل سار على طريق ربه عز وجل  إلى أن أقر الله عينه بأمته في الدنيا ، وسيقر الله عينه بها في الآخرة ،  لتكون أكثر الأمم دخولاً الجنة ، 
 
يقول  النبي صلى الله عليه وسلم : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ  النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِيُّ  لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، قُلْتُ مَا  هَذَا !! أُمَّتِي هَذِهِ ؟قِيلَ : بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ، قِيلَ :  انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الْأُفُقَ ، ثُمَّ  قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ ، فَإِذَا  سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ)رواه البخاري .
 
 
أيها  المسلمون : لننبذ عن أنفسنا الهزيمة المقيتة ، فليست خليقة بأمة كأمة محمد  صلى الله عليه وسلم ملأ ضياؤها مشارق الأرض ومغاربها ، وأصبحت شامة بين  الناس بجميل أخلاقها وحسن منهجها ، فالأمة اليوم أحوج ما تكون لأفراد  أقوياء في سواعدهم ونفوسهم وعقولهم وعتادهم ، لتكون بهذا كله حصنًا منيعًا  يحول دون طمع الأعداء ، ويحجب دون نظرات الحاقدين ، ويحبط كيد المغرضين  .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : } وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ  مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ  اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ  الصَّابِرِينَ { .أستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .