الأربعاء 11 ديسمبر 2024 / 10-جمادى الآخرة-1446

الهزيمة النفسية .



الهزيمة النفسية .
د.فيصل بن سعود الحليبي.
الحمد لله الخافض الرافع ، الباسط الرازق ، القوي المتين ، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد : فيا معاشر المسلمين ، اتقوا الله فيما تعلنون وتسرون ، فإن الله يوصيكم بالتقوى فيقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
أيها الأحبة في الله : في مثل هذه الأزمات العصيبة والمصيرية التي يمر عليها العالم الإسلامي اليوم يتلذذ أقوام بوصف الأمة بالضعف والمهانة ، ويتفكهون بزرع هذه الأوصاف في القلوب ، غير متيقظين إلى أن من أسباب هذا الضعف هو بث الهزيمة في النفوس وتنشئة الأجيال على سلوكياتها والتطبع بأنماطها .
إن هذا الصنف من الناس سلبي الإرادة فهو لا يجيد إلا النقد غير المجدي ، أو التشاؤم غير المفيد ، وتراه أبعد ما يكون عن ميدان العمل الجاد ، والعطاء المثمر ، كما أنه يتوهم كثيرًا من العراقيل التي تحول دون نتاجه لأمته ومجتمعه ، وربما يصل الأمر ببعض هؤلاء أن تتحول قطرات المطر في الصباح الباكر تجعله يفكر طويلاً في ذهابه إلى عمله،وقد لا يذهب !!
لن أسهب طويلاً في وصف في هذا الصنف ، لأن من العجيب كما يبدو لي أنه صنف يعي هذه الصفات في قرارة نفسه ، ويعلم وجودها فيه،غير أنه مهزوم بسببها..
ولنبحث سويًا أيها الأفاضل في بعض أسباب الهزيمة النفسية وعلاجها، علنا نتحسس الداء ، ونجد الدواء .
السبب الأول : ضعف التوكل على الله تعالى ، الذي كرر علينا الأمر بالتوكل عليه في كتابه فقال : } وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ { ، وقال سبحانه : } إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ { ، فإذا ما ملأ المؤمن قلبه بالتوكل على الله لم يبق للجزع في قلبه موضعًا ، ولا للاضطراب في نفسه مكانًا ، بل تراه ثابت الجنان ، واثق الخطى ، يعمل للدنيا كأنه سيعيش أبدا ، ويعمل للآخرة كأنه سيموت غدا .
فما خاب حقًا من عليه توكلا  ***  توكل على الرحمن في الأمر كله
تفز بالذي ترجوه منه تفضلا ***  وكن واثقًا بالله واصبر لحكمه
السبب الثاني : الفراغ الروحي ، فإن الروح إذا لم تجعل لها جدولاً عمليًا يخدم الإنسان فيه كل من تجب عليه خدمته ، انشغلت هذه الروح بأوهام الهزيمة والضعف ، وأصبحت هشة تشرب كل خبر ، وتصدق كل نبأ ، فكلمة تميل بها يمينًا وكلمة شمالاً ،
أخي الحبيب : إن الحقوق كثيرة ، فاشغل نفسك بتأدية كل حق لصاحبه ، تجد نفسك في غاية الأنس والسعادة ، فأهلك في حاجتك ، وبلادك في حاجتك ، وأمتك في حاجتك ، فتأمل كيف تزيد هذا الحقوق من قوة الأمة إذا هي أديت ، وما والله ما ضعفت الأمة إلا بعد أن فرطنا في أداء حقوق بعضنا مع بعض ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ) رواه مسلم .
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً : فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البخاري .
السبب الثالث : عدم اليقين بنصر الله تعالى ، وضعف الإيمان بقدرته ، وإنما أتى ذلك من الجهل بعظمته ، وقلة تدبر كتابه العزيز ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقصر النظر في كل حادثة تقع ، حتى يظن بعض المنهزمين نفسيًا بأن كل قضية كبرى تحدث بأنها هي نهاية المسلمين وفيها هلاكهم ، ألم يقرأ من دبت الهزيمة في أوصاله قول الله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، وقوله سبحانه : { والعاقبة للمتقين } ،
ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) رواه البخاري ، فلنوقن بأن النصر لمن نصر الله لا لمن حاربه وحارب أولياءه ، ولنؤمن بأن العاقبة لأهل التقوى ، لا لأهل الفجور والمنكرات ، ولنجزم بأن أهل الحق ظاهرون حتى يأتي أمر الله .
السبب الرابع : التعلق بالدنيا ، والمبالغة في حب البقاء فيها ، ومحاولة التلذذ بكل ملذاتها ، وبالمقابل نسيان الآخرة ، وما أعد الله فيها من النعيم للمتقين ، والجحيم للكفرة والمجرمين ، فذلك التعلق وهذا النسيان لا شك أنهما يوديان بالمرء في حفر الحرص على هذه الدنيا ، حتى يشعر بأنه لابد أن يبقى فيها بلا موت ، ويحس بأن كل صيحة عليه وعلى أمواله ، حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه ، فيا بؤس من تعلق قلبه بالدنيا وهي دار الغرور والفناء ، ونسي الآخرة وهي دار البقاء والقرار { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
لو لم يكن منها إلا راحة البدن *** هي القناعة فالزمها تعش ملكًا
هل راح منها بغير القطن والكفن*** وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
السبب الخامس : قلة العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف لم تهزمه أعاصير الكفر ، ولم تزده في نفسه إلا ثباتًا ويقينًا ، إلى أن استعذبت ألسنة العرب والعجم شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فلم تكن الأحزاب لتقهره ، ولم تكن المغريات لتثنيه ، بل سار على طريق ربه عز وجل إلى أن أقر الله عينه بأمته في الدنيا ، وسيقر الله عينه بها في الآخرة ، لتكون أكثر الأمم دخولاً الجنة ،
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، قُلْتُ مَا هَذَا !! أُمَّتِي هَذِهِ ؟قِيلَ : بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ، قِيلَ : انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الْأُفُقَ ، ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ)رواه البخاري .
أيها المسلمون : لننبذ عن أنفسنا الهزيمة المقيتة ، فليست خليقة بأمة كأمة محمد صلى الله عليه وسلم ملأ ضياؤها مشارق الأرض ومغاربها ، وأصبحت شامة بين الناس بجميل أخلاقها وحسن منهجها ، فالأمة اليوم أحوج ما تكون لأفراد أقوياء في سواعدهم ونفوسهم وعقولهم وعتادهم ، لتكون بهذا كله حصنًا منيعًا يحول دون طمع الأعداء ، ويحجب دون نظرات الحاقدين ، ويحبط كيد المغرضين .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : } وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ { .أستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
تصميم وتطوير شركة  فن المسلم