د. أسماء جابر العبد
إن الله عز وجل خلَقنا شعوبًا وقبائلَ لنتعارف ونتآلَف، لا لنعتزل الحياة العامة وننطوي ونخالف، والدين الإسلامي اجتماعي بطبيعة شعائره، يظهر فيها الرباطُ المجتمعي واضحًا بيِّنًا، يربط بين أفراده في المشارق والمغارب.
جانبٌ اجتماعي حثَّ عليه الإسلام يجب أن يؤدَّى، فلا يُهمل ولا يُطوى؛ حضور الجُمَع والجماعات، وتشييع الجنائز، وعيادة المريض، إجابة الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير والبر، ووعَد أجرًا عظيمًا على مَن يُطيق هذا ويَصبر عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم))؛ رواه أحمد.
فالعلاقات الإنسانية الاجتماعية سببٌ لاستقرار النفوس، ونشر العلوم وتحصيل المعارف، والتجارب التي يعجِز العقل الغريزي وحدَه عن تفهُّمها دون ممارسة، ثم القيام بحقوق الآخرين، وتحصيل الأجر والمغفرة وعبادة الله على بصيرة.
وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن الروابط الاجتماعية القوية مهمةٌ للأداء المعرفي والوظائف الحركية، والعزلة الطويلة يُمكن أن تؤدي إلى الهلوسة وغيرها من أشكال الاضطرابات العقلية.
ومع هذا يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى خلوة تكون بمثابة زادٍ له مع الطريق, يسترجع فيها نفسه، ويستعيد ذاتيته.
فقد أصبح العالم معقدًا للغاية، وصاخبًا أكثر مما ينبغي، ضغوط حياتية تنهال على الإنسان من كل جانب، فكان اللجوء إلى العزلة والصمت شحنًا للوقود – ليستمر العطاء، ويستعين به على المخالطة – وسببًا لأن تقودَه للمجتمع مرة أخرى؛ كي يُصلح فسادَه، ويُهذِّب شعثه، ويُلملم ما تبعثَر فيه.
فهي وحدة اختيارية لا إجبارية، مؤقتة، هدفها الاسترخاء وتهيئة النفس؛ لتكون قادرة على مواكبة الحركة وخط المصير.
فخذ من كلٍّ حظَّك، من الخلطة، ومصاحبة العلماء والزهاد، وإقامة الشعائر، والتعاون على البر والتقوى.
ومن العزلة راحة القلب، والتفرغ للعبادة، والأنس بمناجاة الله، والتخلص من رديء الأخلاق التي تحصل بالمخالطة.
كان أول من اعتزل إبراهيم عليه السلام، حين قال: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48].
وأصحاب الكهف؛ حيث قصَّ علينا القرآن قصتهم، فقال: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
ونبينا صلى الله عليه وسلم في غار حراء، كَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ أُولاَتِ الْعَدَدِ؛ رواه مسلم.
لذا شرَعها العلماء عند وقوع الفتن.
فالعزلة ما هي إلا وسيلة لحفظ النفس عن الآثام، وتزكيتها بالفضائل، وتخليها عن الرذائل، فلا نقصد بالعزلة تلك التي تَمنعك عن الجُمع والجماعات، وجحود الآباء، وبخس حق الأبناء، وترك حقوق العباد؛ من رد السلام، وإجابة الدعوات، والأمر بالخير والنهي عن المنكرات.
فمن ذا يقوم بواجب التبليغ حين يعتزل الجميع؟!
والعزلة لم تُشرَع لجاهلٍ أو غافل، فالجاهل يحتاج لمصاحبة العلماء، والغافل يحتاج لصحبة أهل الدين؛ ليأخذوا بيده إلى جادة الطريق؛ ((فإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ))؛ رواه أبو داود.
نعم خالِط، لكن أقبِل على نفسك وشأنك، واعتزِل نعم، لكن على علم وفَهمٍ.
اكتسب من الخلطة إيجابيتها، واستفِد من العزلة خيرَها.
انْوِ بها كفَّ شرك عن الخلق، والسلامةَ منهم، والتجرد للعبادة، وإصلاح القلب.
واعلَم أن الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، وأن فراغ القلب من العوائق والعلائق التي تشغله عن ربه، لا تأتي بالمخالطة، فكم سلَبت الخلطة من نعم، وكم جلَبت مِن نقم، وكم زرَعت من عداوات وضيَّعت من ساعات، أيعرف أحدٌ ربَّه ثم يأنَس بغيره؟!
فالعزلة تنفع العالم العاقل، وتضر الجاهل الغافل، وإذا كان في المخالطة خيرٌ، ففي العزلة السلامة، ورحِم الله الشافعي حيث قال لصاحبه: “يا يونس، الانقباض على الناس مَكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مَجلبة لقُرناء السوء، فكُن بين المنقبض والمنبسط”؛ حلية الأولياء.
ألا إن كل امرئ طبيب نفسه، يعلم ما يضرُّه وما يُصلحه، فتعاهَد قلبك، وانظر ما يُصلحه, واذهَب إلى الله بضَعفك يأتِك بقوته، وادْعُه دعاء المضطر، ينظرْ إليك بعين رحمته، فهو وحده حسبنا وهو نعم النصير.