الأحد 06 أكتوبر 2024 / 03-ربيع الثاني-1446

حتى تكون أسعد الآباء ؟!



حتى تكون أسعد الآباء ؟!

كثير من الآباء وأولياء الأمور اليوم يعانون صعوبات بالغة في تربية الأولاد وملاحظة سلوكياتهم المتغيرة وأثرها البالغ على الأسرة والمجتمع. ولا شك أن هناك أسباب فاعلة أدت إلى هذه الصعوبات بل وحتى المتناقضات ولست هنا بصدد التعرض أو البحث في تلك الأسباب فهناك كثير من الطرح والدراسات في هذا المجال يمكن الرجوع والاطلاع عليها ما يهمنا في هذا المقام هو عرض أسلوب أو أساليب تربوية نافعة جدا ومؤثرة بقوة في تربية الأولاد وتكوين البيت والأسرة السعيدة والآباء السعداء، بل وحتى الآباء الذين بذلوا جهودا في تطبيق قوالب ونظريات تربوية ولم تحقق نتائج تربوية طموحة – وذلك إما لأن تلك القوالب والنظريات جامدة أو مستوردة ومعلبة وغير مناسبة أو تم تطبيقها بشكل غير واقعي وغير مناسب – وبكل الأحوال أصيب بعض الآباء إن لم يكن معظمهم بإحباط أو يأس تجاه تربية أولادهم، بل بعض الآباء ترك الحبل على الغارب نتيجة لهذا الإحباط.

وأسوق إليهم اليوم باقة رائعة وفاعلة في مجال تربية الأولاد بل وحتى المجتمع.

كما أزف إليهم البشرى أنه في حالة تطبيق وممارسة هذه الأساليب سيكون الآباء في غاية من السعادة مع أولادهم وبناتهم، خاصة إذا علمنا بأن هذه الطرق والأساليب هي توجيه رباني محض وآيات بينات تتلى صباح مساء إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب.

وتعالوا بنا نستعرض هذه الأساليب في هذه الآية الكريمة.

يقول الحق سبحانه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }. آل عمران: (159)

قد يقول قائل: ما مناسبة الآيات وهي تتحدث عن طريقة تعامل الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مع الصحابة الكرام وبين تربية الأولاد ؟

وهذه نظرة – مع الأسف – اجتزائية ضيقة لهداية آيات الكتاب العزيز وتأثيرها في حياتنا وربما ننسى أنه سبحانه وتعالى وصف كتابه الحكيم بقوله: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } للتي هي أقوم في شتى مجالات الحياة ودروبها.

والعبرة – كما هو معلوم – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ثم إذا كانت هذه الأوامر والتوجيهات في الآية الكريمة تتعلق بعلاقة الإنسان وطريقة تعامله مع غيره من الناس الذين هم تحت يده والذين لا تربطه بهم أي صلة قرابة أو نسب وترتقي به إلى هذا الأسلوب الراقي والشفاف جدا في المعاملة ؟! فما بالك إذا تم تطبيق هذه التوجيهات مع ذوي القرابة والنسب من الأولاد والبنات وغيرهم ؟ ولا شك أنهم أولى وأحرى بها من غيرهم.

نعود إلى معين الآية الكريمة وأرجو من القارئ الكريم ألا يتعجل قراءة المقال قبل تمامه حتى تكتمل الصورة وتحصل الاستفادة من هداية هذه الآية العظيمة وينفعنا الله بما فيها من العلم والعمل.

وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد:

الحدث الأول: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة، فأشار عليه الصحابة الكرام أن يخرج إليهم  فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ولبس لأمته، فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه، تراجعوا وقالوا: يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج فقال: ” ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل “.

الحدث الثاني: تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش.

الحدث الثالث: مُخالفة الرُماة أمره صلى الله عليه وسلم وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة: ” أنضح عنا الخيل بالنَّبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتَين من قَبْلك ”  ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحدث الرابع: فِرارهم حينما قيل وأشيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل.

الحدث الخامس: أنه حين كان يدعوهم ؛ فروا لا يلوون على شيء.

كل تلك الأحداث كادت تترك في نفسه صلى الله عليه وسلم آثاراً، فكأن الله سبحانه وتعالى يسلي رسوله الكريم بأنه طبع في قلبه الرحمة والرأفة بأصحابه وأنهم بشر تحصل منهم الهفوات وهذه الرحمة تتسع لكل هذه الهفوات ثم يرسم له سبحانه منهجا في التعامل معهم ويوجهه إلى ثلاثة أساليب اصلاحية وتربوية تجمع الكلمة وتوحد الصف وتطيب النفوس وهي:

1-العفو   2 – الاستغفار ( الدعاء )  3- المشاورة. 

أولا: العفو: فما هو العفو ؟

يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء.

وبعبارة أخرى هو: مَحْو الذنب محوا تاماً وهو يختلف عن كظم الغيظ ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا إلا أنك لا تعاقب عليها ؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك، أما المسألة فما زالت في نفسك، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا.

وعادة يأتي العفو بعد استحقاق العقوبة وهو منهج اصلاحي خلاق لمعالجة الكثير من مشاكلنا وأخطائنا.

تعالوا بنا نطبق هذا المنهج مع أولادنا. كم من الأولاد الذين يرتكبون الأخطاء الفادحة التي تستحق العقوبة وربما لو اتخذنا فيها قرارا بالعقوبة الصارمة لترتب عليها مضاعفات ومشاكل أخرى تجعل الأب والأسرة في وضع لا تحسد عليه. فيأتي العفو فيلطف الأجواء ويقلل من تفاقم الأوضاع ويحد من تكرار الأخطاء. لنجرب التعامل مع أولادنا بالعفو فيما يسعنا فيه العفو والصفح وسنرى النتائج الإيجابية لهذا التوجيه الرباني. وأولادنا أولى بالعفو والصفح من غيرهم من الناس.

ثانيا: الاستغفار ويشمل الدعاء:

والاستغفار هو: طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى.

قد يعفو الانسان ويصفح في حق نفسه ويبقى حق الله سبحانه فيلجأ إلى الله بطلب المغفرة والتجاوز عن الشخص الذي عفا عنه وهذا يدل على سلامة الصدر وصدق العفو وسمو النفس فلا يقتصر الأمر على العفو نحو الإساءة بل وطلب المغفرة عمن أساء.

والاستغفار يتضمن أيضا الدعاء بالهداية والتوفيق لمن أساء أو أخطأ.

فكم من الأولاد ارتكب في حق الآباء من العقوق والعصيان وارتكاب المعاصي والآثام ؟!

لنجرب التعامل مع أولادنا بالاستغفار والدعاء لهم بالمغفرة والهداية والتوفيق. قال تعالى:

{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة128

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }الفرقان74

وبدلا من الدعاء على الأولاد والبنات الدعاء لهم وهذا نفعه متعد ليس على من يُدعى له بل على الداعي نفسه، وهو من باب العبادة والتقرب إلى الله بالطاعات.

ففي الحديث الشريف: ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ). أخرجه مسلم. فكيف بدعائك بالخير لمن هم فلذات الأكباد !

وفي الحديث ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم ). حديث حسن.

ثالثا: المشاورة ( الشورى ):

هي: أخذ آراء الذين حولك من العقلاء وذوي الرأي وتقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة.

والمشاورة تعني المشاركة وإتاحة الفرصة لاستقطاب الآراء والأفكار واختيار الأفضل منها.

وتعني إبداء الاحترام والتقدير للآخرين وتعني كذلك المشاركة الوجدانية والشعور بروح الانتماء.

يقول تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }الشورى38

لنجرب التعامل مع أولادنا وخاصة الكبار منهم بمبدأ المشاورة نشاورهم مثلا في شراء أثاث البيت، في شراء السيارة، في الذهاب إلى نزهة، في الدراسة وما يتعلق بها، في علاج بعض المشكلات، في تقدير بعض الاحتياجات وغيرها من أمور الحياة في دنيا الناس.

حتما سيتولد لديهم الشعور بأهميتهم وأهمية آرائهم ويعزز في نفوسهم الثقة ويغرس المحبة في ربوع الأسرة ويحصل الأب على مكانة من التقدير والاحترام.

لنجرب ونحاول أن ننهج هذه الأساليب:

نعفو ونصفح عن أخطاء أبنائنا وبناتنا..

ندعوا ونستغفر لهم ونطلب لهم الرحمات من الله تبارك وتعالى..

نستشيرهم ما أمكن في أمور الحياة ونشاركهم أفراحنا وأتراحنا..

يضاف إلى هذه الأساليب القدوة الحسنة والعدل بين الأولاد لتكتمل الخطوط العريضة في منظومة التربية الفاضلة والحياة السعيدة، لتكون أبا سعيدا في حياتك ومع أولادك.

جرب أيها الأب الكريم أن تطبق هذه الأساليب مع أولادك وبناتك ولن تخسر أبدا وستجد النتيجة الطيبة بإذن الله.

لكن قبل أن تجرب أخلص نيتك وعملك في تربية أولادك لله رب العالمين واجعل ما تبذله من جهد ووقت ومال من العمل الصالح الذي ترجو به وجه الله ثم الفوز والفلاح يوم القيامة فإنك تجمع بين أجر الدنيا وأجر الآخرة {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الشورى (36).

قال صلى الله عليه وسلم: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك ) أخرجه الشيخان

وقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على فرسه في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ) قال أبو قلابة بدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة أي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله به أو ينفعهم الله به ويغنيهم . رواه مسلم والترمذي.

وفي الحديث: ( من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة. فقال رجل من بعض القوم: وثنتين يا رسول الله ؟ قال: وثنتين ). حديث حسن.

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً..

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه / إدريس بن أبكر مجرشي

 

المصدر : الرئاسة العامة لهيئة المر بالمعروف و النهي عن المنكر

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم