الأحد 06 أكتوبر 2024 / 03-ربيع الثاني-1446

سر حيّر العقلاء .



 سر حيّر العقلاء .

  وليد بن خالد الدلبحي

يذكر ول ديورَانت: أن السكان الأصليين لبريطانيا الجديدة كانوا يعتقدون أن الموت جاء نتيجة خطأ، وهذا ناتج عن أن القوم وثنيون في الحقيقة، فهم يعتقدون بوجود إله اسمه “كامبيانا”، وله أخ أحمق اسمه “كورفانا” تعالى الله عما يقول الكافرون-وأن هذا الإله أمر أخاه أن ينزل للبشر بأمر، وهو أن يسلخوا جلودهم؛ حتى يتخلصوا من الموت، ثم أمره أن ينبئ الثعابين أن موتها منذ اليوم أمر محتم، فخلط “كورفانا” فبلغ الثعابين الخلود، وقضاء الموت للإنسان(1).

فهذه حكاية عن قوم جعلوا عقولهم مرتعاً للخرافات والحماقة والدجل، فأي عقل يقبل بمثل هذه الحماقة العقدية، وهذه حكاية ساقطة في الأصل، فلا يمكن أن يكون هذا إلهًا قادرًا متصرفًا في خلقه، فإن المعبود الذي لا يمكن أن يبلّغ ما قضى، وأن يتم ما أمر، لا يستحق أن يكون إلهًا، وهذا هو الاعتقاد الصحيح، وإن كل كمال في المخلوق هو كمال لله من باب أولى، والله جل جلاله متصف بالكمال والعظمة، وهو الآمر الناهي، وهو المتصرف في خلقه جل جلاله.

ولمن أراد أن يعجب، ويحمد الله على سلامة العقل والدين، فليقرأ ما قاله جاك شورون: ” ومن الأساطير النموذجية التي توضح أصل الموت أسطورة ناما بين الهوتنتوت التي جاء فيها أن القمر وكانوا يعتقدون بإلوهية القمر – تعالى الله عما يقول الكافرون- أرسل القملة يوماً لتعد الإنسان بالخلود، وكانت الرسالة تقول: “كما أموت وفي مماتي أحيا، كذلك أنت ستموت وفي مماتك تحيا” وصادف الأرنب البري القملة في طريقها، ووعد بنقل الرسالة، غير أنه نسيها وأبلغ البديل الخاطئ لها: “كما أني أموت وفي مماتي أفنى…الخ” فضرب القمر غاضباً الأرنب البري على شفته التي ظلت مشقوقة منذ ذلك الحين.(2)!!

وهذه أسطورة سخيفة قريبة إلى مسلسلات الأطفال الكرتونية، وهي ساقطة عقلاً، فكيف يتم استخدام الحيوانات الضعيفة لتبليغ أمر عظيم من إله، إلى مخلوقات عظيمة هم البشر؟!!.

فهكذا تكون العقول وتفكيرها إذا ابتعدت عن الحق المبين، والصراط السوي المستقيم.
فبسبب هذه الشكوك وغيرها اعتنق بعض الناس الإلحاد، ورأوا أن الإلحاد هو أسلم طريقة لهم، وأن الطبيعة هي المتصرفة في نفسها، وكل ما يحدث فيها إنما هو ناتج عن مصادفة أو نتائج لمعادلات رياضية كونية، وهذا كله دجل وابتعاد بالعقل عن مكانه الطبيعي إلى مكان فيه ضرره وقتله؛ فالعقل بهذه السطحية في التفكير يُقتل، فلا يمكن أن يوجد شيء في هذه الحياة إلا وله مدبر وخالق، يستحيل عقلاً أن يوجد شيء يستطيع خلق نفسه، ولا يمكن أن تكون الطبيعة خالقةً لنفسها؛ إذ هي في الأساس مخلوقة، فهل المخلوق يخلق؟!

لا يمكن أن يخلق المخلوق نفسه ولا غيره من العدم، ويستحيل عقلاً وديناً، وهذا كله يدل على أن لهذا الكون خالقًا واحدًا متصرفًا فيه ومدبرًا له، وهو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد.

ومن عجيب ما نسمع ونشاهد في هذا الزمان، أن متحدثاً يعد من المثقفين المفكرين يقول: “إن العلم لا بد له أن يجد حلاً للموت”(3)!! غريب أن يصدر هذا القول من رجل يقول عن نفسه” إنه مسلم “..

فالمسلم مؤمن بأن الموت حق على كل المخلوقات، والعاقل من الناس يجب أن يؤمن أن الموت لا بد منه، فهذا من قانون الحياة الأساسي، الذي أبدعه الخالق جل جلاله، فإن كان الموت قد أخذ من الكاتب أصحابه وأحبابه، فقد أخذ الأنبياء والمرسلين، وهم أكرم عند الله من باقي البشر، فغريب، كيف لعاقل أن يقول مثل هذا القول؛ لأنه إن لم يمت الناس، فقد ضاقت الدنيا بأهلها، وضاقت الأرزاق، وعاش الناس في غم وهم وضيق، ولم يكن للوليد فرحة، ولا للزواج نشوة، ولما كان لهذه الحياة متعة، ولأمن الكافر والظالم على نفسه، وحزن المظلوم؛ لأنه قد انتفى العدل ببقاء الناس دون حكم وقضاء، ولا يتم هذا إلا في الآخرة، ولا يمكن أن تقوم القيامة إلا بعد الموت، فهذا حكم الله الذي لا مفر منه.

ومهما بلغ العلم والطب، فلن يصل إلى أن يخالف إرادة الخالق الواجد – سبحانه -، ومصير العلم أن يتوقف في مكان لا بد أن يتوقف فيه، فما هو العلم الذي يتحدى قدرة الله جل جلاله؟ ثم إن مثل هذا الأمل الغريب، لهو أمل ضئيل صغير؛ إذ كيف يترك الإنسان العاقل الحياة الأبدية السرمدية في النعيم، بحياة كلها تعب ونكد وهم وغم، مقارنة باطلة، وصفقة خاسرة، فالموت لا بد منه كما قال الله جل جلاله: (كل نفس ذائقة الموت).

ولذا فالموت قد حيَّر خلقاً كثيراً، وشتت أذهانهم، وجعل بعضهم يشك في وجود المصرف الخالق جل جلاله-، وهو شيءٌ خارج عن محيط تفكير الإنسان؛ لأن التفكير له نطاقه الخاص، وحدوده المعرفية، فلا يمكن أن يتجاوز هذه الحدود مهما كان الأمر، ولا يمكن أن يفسر الحوادث والأقدار على ما بدا له، أو خطر بباله، أو عالجه همه، أو قلَّبه بفكره.

وإن حوادث الحياة كثيرة، والأقدار عظيمة، ومنها الصالح في الظاهر، ومنها الشر فيما يبدو للناس، ولكن الخير والشر بيد الله لا يعلمه إلا هو، والموت من أعظم الأمور التي تُقلق بعض البشر، وتُكثر الأسئلة في أذهانهم، وتجعلهم يعيشون في شك شديد، وحيرة عظيمة، ثم يتطور بهم الحال إلى أن يصلوا إلى طريق مسدود، لا يمكن أن يقتحموه بعقولهم القاصرة عن إدارك كثير من الحقائق.

فالموت أمر عظيم، وخطب جلل جعل كثيراً من الناس في دوامة لا يعرف لها قراراً ولا يجد منها خلاصاً، ينتهي من سؤال فيقع على سؤال آخر، وكلها دائرة في حلقة مفرغة، وسبب الفراغ أنه بلا دين ولا عقيدة تحكم له الأمور، وتزن له المسألة.

وقد يسأل سائل: ما دخل الموت في الدين والعقيدة؟

فنقول: لو كان لدى الإنسان قاعدة ثابتة ينطلق منها، لما وقف في وجهه مثل هذه الإشكالات التي زيَّنها الشيطان لبني الإنسان، ولم يجد عنده شكاً، ولم يلتفت إليها؛ لأن الأصل الذي لا بد أن ينطلق منه الإنسان، وأن يزن به أموره، هو الدين والعقيدة، فمن كان لديه عقيدة ثابتة في أن الحياة مرحلة انتقالية إلى دار يتم فيها القضاء والحساب، لعلم أن الموت أمرٌ محتم لا بد منه؛ لأنه لا يمكن أن تستمر هذه الحياة، فلم يُقدر لهذه الحياة الدنيوية الخلود؛ لأنه من المنتفي عقلاً وديناً أن يبقى الناس في هذه الحياة دون حساب،

ومحال بقاء الحياة بظلم الناس فيها، وسرقاتهم، وكذبهم، وقتلهم، واعتدائهم على الناس، وتجبر الجبابرة، وظلم الظلمة، وتسلط الناس على بعضهم، فلا يمكن أن يمر بلا حساب، ولا يمكن أن يستمر هذا إلى الأبد؛ ولذا جُعلت الحياة مرحلة انتقالية إلى دار يتم فيها العدل، ويُرد فيها الحق إلى أهله، ويُقتص من الظلمة والجبابرة وغيرهم، فلا بد من هذا الأمر، وإن طالت الحياة الدنيوية في نظر كثيرٍ من الناس.

 

فقضاء الله بالموت على خلقه جميعاً، الحر منهم والعبد، والقوي منهم والضعيف، الظالم منهم والمظلوم، والخيّر منهم والشرير، جعل بعض الناس ممن ينتمون إلى العلم والعقل، يشك في هذه الأقدار الإلهية، ويتهمها بالظلم تعالى الله-وسببه أنهم يرون في مثل هذا القضاء عدم إنصاف وعدل، ففي نظرهم كيف يموت الغني والفقير؟

وكيف يموت الطيب والخبيث؟ فهم يرون هذا تناقضًا، فنقول مجيبين عن هذا الاعتراض: إن من العدل الإلهي التام أن يكون حكم الموت على جميع من خُلق، فلا يُميز ولا يُستثنى أحد، فالجميع يموتون، والجميع ينتقلون من هذه الحياة إلى حياة أخرى؛ ليُفصل بين الناس، ويتم القضاء الحق كما أسلفنا.

الموت أمر لا بد منه، وما لدى الله جل جلاله-من نعيم خير مما في الدنيا، وما عند الله من عذاب أعظم مما في الدنيا، فمن ظلم وتجبر وطغى في الأرض، فله عذاب عظيم عند رب عزيز لا يظلم، ومن أراد النعيم والسرور في الدنيا فعند الله من النعيم ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

نسأل الله حياة السعداء، وموت الشهداء، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.

ــــــــــــــــــــــــ

(1)- قصة الحضارة الجزء الأول، ص 100.
(2)- الموت في الفكر الغربي، ص 16. عالم المعرفة.
(3)- العربية نت، برنامج إضاءات،

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم