غرس معاني الحبِّ السامي في نفوس أبنائنا.
د. حمد بن عبد الله القميزي .
إن المتأمل لواقعنا اليوم يلحظ غياب كثيرٍ من المعاني السامية والمشاعر النبيلة من النفوس، غابت هذه المعاني والمشاعر في خضم الأزمات المادية والمشكلات الاجتماعية والمطامع الاقتصادية والأمراض النفسية،
ومن ذلك غياب معاني الحب السامي الذي تهواه النفوس وتعيش به، لما له من معانٍ سامية ومشاعر نبيلة، إذ به تغفر الزلات وتشهر الحسنات ونسعد في الحياة، وعندما لا يكون هناك حب تضيق النفوس وتكثر المشكلات وتتأجج الخصومات.
إن الحبَّ نعمة عظيمة فطر الله الإنسان عليها فأودع فيه قلباً لتحقيق تلك الفطرة، فإذا لم يمتلئ هذا القلب بحب الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وما يحبه الله ورسوله وحب الآخرين حباً سامياً متوافقاً مع الأدلة الصحيحة والعقول السليمة فإنه سيمتلئ كراهيةً وحقداً أو حباً لا يرقى إلى ذلك السمو بل واقع في شراك المعاصي، وقد يبتدع المرء أموراً تخالف الدين والفطرة لإشباع تلك الغريزة.
وقد أدرك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ما لغرس معاني الحب السامي وتنميتها في النفوس من أثر في بناء وتماسك المجتمعات والأمم، فآخى بين الأنصار والمهاجرين وجعلهم متحابين.. ودعا المسلمين إلى هذا الحب وأمرهم أن يعلنوه لتتفتح مغاليق القلوب وتشيع المودة والنقاء والألفة بين أفراد المجتمع، وتزدهر الحياة وتسمو العلاقة بين الناس، وتحل القيّم النبيلة محلَّ القيّم المادية البحتة، وتنتزع أدران الحسد والغل والتجهّم والتباغض من النفوس..
قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولاً أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وربنا عزَّ وجلَّ يحب، يحب المتقين والمتطهرين والمحسنين والصادقين، ويحب الصابرين والمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، ولا يحب سبحانه وتعالى المسرفين والمختالين والمتكبرين والفرِحين بمعاصيهم والمتبخترين، قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
ويقع على عاتق الآباء دورٌ كبيرٌ في غرس وتنمية معاني الحب السامي في نفوس أبنائهم، ومن أبرز الأساليب التي تعينهم على ذلك ما يلي:
* أن نربط أبناءنا بالثواب الأخروي، ونؤكد لهم بأن الحب السامي للآخرين – المتوافق مع الأدلة الصحيحة والعقول السليمة – قضية شرعية يؤجر عليه المسلم إذا أخلص هذا الحب لله، ففي الحديث: قال الله عز وجل: (المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)، وفي الحديث الآخر: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ)، بل إن الأجر والثواب يزداد بزيادة هذا الحب فكلما زاد حب المسلم لإخوانه زاد أجره عند الله، ففي الحديث: (ما تحابَّ الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه).
* أن نعبّر لأبنائنا عن حبنا لهم بالكلمات المناسبة، فيسمع الأبناء من آبائهم: أحبك يا بني، أنا أحبك يا ابنتي وغيرها من الكلمات الدالة على الحب، لأن الحب إذا لم يتم التعبير عنه بألفاظ وتعابير جيدة فإنه مع الوقت يركد ويضعف وربما يهرم أو يموت،
فالصورة التي يرسمها الأبناء في أذهانهم عن أنفسهم وعن الآخرين هي إحدى نتائج الكلام الذي يسمعونه، ويمكن كذلك التعبير عن هذا الحب بالرسائل، وذلك بكتابة مشاعر ذلك الحب الصادق لأبنائنا في رسالة ورقية أو جوالية أو إكترونية أو على هدية جميلة، وقد قيل: كلمات الحب أجمل من الحب، و شيئان يفسدان الحب: الصمت والإهمال.
* أن نجعل أبناءنا يشعرون حسياً بحبنا لهم، لأن الأبناء – خاصة في مرحلة الطفولة – يمتصون المشاعر كما يمتص الإسفنج الماء، وذلك لينشأوا نشأة صحيحة تعمر قلوبهم المحبة ويشيع في نفوسهم الصفاء، وذلك بأن يحول الآباء التعبير عن الحب من الكلام إلى واقع ملموس يحس ويشعر به الأبناء، فلا يكفي أن نقول لهم: إني أحبكم، بل لابد من تحويل هذا الكلام إلى واقعٍ محسوس فنقبّلهم ونضمهم ونمسح على رؤوسهم..
وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبّلون الصبيان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلصق ركبتيه بركبة محدثه، ويقبل عليه بكليته، وأبناؤنا وإن كانوا صغاراً فهم يشعرون بهذا الحب وبالتعبيرات المناسبة عنه..
ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت فيأخذه فيقبله ثم يرجع)، وقد أثبتت الدراسات أن مجرد اللمسة الحانية تجعل الإحساس بالحب والود وبدفء العلاقة يرتفع إلى مستويات أعلى.
* أن ندرّب أبناءنا على أن يفصحوا عن حبهم لمن يحبونه وكيف يعبّرون عن حبهم له، ولقد علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام أسس التعبير عن ذلك الحب بقوله: (إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه) فإخبار المحبوب بالمحبة خطوة أولى للتعبير عن هذه العاطفة السامية وسبب في رسوخها واستمرارها، وبتطبيقنا لذلك مع أبنائنا ومع الآخرين وهم يشاهدونه ويسمعونه نعطيهم قدوة حسنة في الإفصاح عن ذلك الحب.
ومن ذلك أن يستغل الآباء المواقف الحياتية التي يمرون بها مع أبنائهم في غرس وتنمية الحب السامي في نفوسهم، وذلك بأن نجعل أبنائنا يمارسون تطبيقه عملياً في حياتهم وتحت أنظارنا من خلال تعاملهم مع إخوانهم وأصدقائهم وجميع الناس، وأن نجعلهم يعلنوا عن حبهم للآخرين عندما يخطئون عليهم أو يقدمون لهم معروفاً، أو عندما يشاهدون محتاجاً أو مسكيناً نرشدهم إلى تقديم المساعدة له.
* أن نقرأ على أبنائنا ونجعلهم يقرؤون قصصاً عن حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حبهم لبعضهم البعض ونماذج أخرى من قصص الإيثار والحب الصادق القديمة والحديثة وعن آثاره في حياة المسلمين.
* أن نشجع أبناءنا ونكافئهم من حين لآخر إذا تصرفوا بسلوكيات فيها معاني الحب السامي للآخرين، فالتشجيع المعنوي والمادي يؤكد ويعزز القيّم والمشاعر التي يؤمن بها الإنسان ويدفعه إلى المزيد منها، ويؤكد علماء النفس على الآباء بأن يمنحوا أبناءهم الكثير من المدح وهم يحسنون من سلوكهم، كما أن على الآباء أن يوازنوا بين التشجيع المعنوي والمادي ليؤدي كلٌ منهم دوره المؤمل.
* يعيش الناس في دولهم تحت ظل أنظمة تسيّر أمور حياتهم المادية، ومما يعين على تطبيق تلك الأنظمة غرس حب النظام في نفوس أبنائنا والتأكيد على احترامه والالتزام به في سلوكهم وعلاقاتهم، فإذا أحب الأبناء النظام التزموا به وساعد على صفاء نفوسهم من الحقد والشحناء وكثيرٍ من الأمراض، وارتقى مستوى حب الآخرين في نفوسهم.
* أوصى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفق في جميع الأمور، ومما يعزز الرفق في نفوس أبنائنا سواءً كان بالبشر أو الحيوانات أو الجماد أن نغرس في نفوسهم هذا الحب، فإذا أحب الإنسان إنساناً آخر فسوف يرفق به، وكذلك إذا أحب حيواناً أو جماداً فسوف يرفق به ويحافظ عليه.
أخيراً: إن غرس معاني الحب السامي في نفوس أبنائنا له فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، وإذا نشرنا هذا الحب بين أفراد المجتمع فسوف تتحقق الكثير من الآثار الإيجابية والأخلاق الحميدة، وسوف تتلاشى الكثير من الأمراض المعنوية والمشكلات الاجتماعية، لذا علينا توجيه تلك الغريزة الفطرية في أبنائنا التوجيه السليم قبل أن تنقلب عليهم وعلينا بالعواقب السيئة.